﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي

ثالثاً: القذف بالزنى وأحكامه، واللعان وأحكامه.. المحاضرة الرابعة.. في 25/8/1385هـ.
((وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)). (1) القذف بالزنى وأحكامه: قوله تعالى: ((والذين يرمون المحصنات)) الآية. لما ذكر تعالى حكم الزنى ذكر حكم من يرمي غيره بالزنى صيانة للعرض من الأذى، وللأنفس من الإزهاق. والرمي يطلق على القذف، وهو معروف في لغة العرب، قال الشاعر: وجرح اللسان كجرح اليد وقال آخر:

[قال المعلق على كتاب الجامع لأحكام القرآن: البيت لابن أحمر، والطَّوي: البئر]. وللقذف طرفان وواسطة: الأول من الطرفين مجمع على إيجاب جلد صاحبه ثمانين وهو نوعان: النوع الأول: أن يصرح بالزنى، كأن يقول لشخص: يا زاني. النوع الثاني: أن ينفي نسب الولد. والثاني من الطرفين مجمع على أنه لا يجب فيه ثمانون جلدة - أي ليس فيه حد - وهو أن لا يصرح فيه بالزنى أو ما يدل عليه، بل يسبه بصفة أخرى قبيحة، كالبخل ونحوه. القسم الثالث: الواسطة، وهو أن يرميه بالزنى بواسطة التعريض، لا التصريح، كأن يقول: أنا لست ابن زنى، فيفهم المقصود من جانب اللفظ، وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلاف: فذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يكون قاذفاً: فلا يقام عليه حد القذف بل يؤدب بما يراه الحاكم تعزيراً، وعلى هذا جماعة، منهم الإمامان أبو حنيفة، والشافعي. وذهب آخرون إلى أن المعرض بالزنى قاذف كالمصرح، فيقام عليه حد القذف، وعلى هذا المذهب الإمام مالك وطائفة من العلماء. وحجة أهل المذهب الأول: أن الله تعالى قد فرق في كتابه بين التصريح والتعريض في قصة المعتدَّة، فلا يجوز أن يقال لها: إني أريد أن أتزوجك، ويجوز أن يقال: أنا راغب فيك، وإذا فرق بينهما في قضية، وجب أن يطرد التفريق في غيرها.. قال تعالى: ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ)). [البقرة:235]. وحجة الإمام مالك ومن معه من وجهين: الوجه الأول: من جهة المعنى، وذلك أن حد القذف شرع لدفع الأذى في العرض، والأذى الحاصل بالتعريض، كالأذى الحاصل بالتصريح. الوجه الثاني: ظواهر القرآن الكريم وأساليب اللغة العربية، أما ما يدل على ذلك من ظواهر القرآن فمنه قوله تعالى عن قوم شعيب: ((قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)). [هود:87]. أرادوا المهين الحقير السفيه، بدليل أن الله تعالى ذكره في معرض الذم لهم، ولو كان قولهم هذا على ظاهره لما ساقه في صفاتهم الذميمة. ومنه قوله تعالى: ((ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)) [الدخان:49]. أي الخسيس المهين الحقير. ومنه قول قوم مريم فيها حين جاءت حاملة عيسى عليه السلام، وهم يعلمون أنه لا أب له: ((يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً)) [مريم:28]. ومرادهم: أن أبويك صالحان وأنت لم تقتفي أثرهما.. وقد سمى الله تعالى قولهم هذا بهتاناً، فقال: ((وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً)). [النساء:156]. فظواهر هذه النصوص القرآنية تدل على أن حكم التعريض مثل حكم التصريح. ومما يدل على ذلك من الشواهد العربية قول الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها،،،،، واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي [العقد الفريد (3/19)]. أراد أنك لست من الرجال الذين يكدحون على أنفسهم وعلى من يعولون، وإنما أنت من أشباه النساء اللاتي يطعمن ويكسون وهن قاعدات في البيوت، ولذلك حبس عمر الحطيئة. وكما قال أيضاً:

[نسب ابن عبد ربه هذا البيت في أبيات أخرى للنجاشي عن رهط تميم بن مقبل العقد الفريد (3/17)]. وسأل عمر حسان بن ثابت عن هجاء الحطيئة السابق فقال حسان: ما هجاه ولكن سلح عليه. وأجاب الإمام مالك ومن ذهب إلى مذهبه على قول الأولين واحتجاجهم بأن الحدود تدرأ بالشبهات، بأن هذا التعريض لا شبهة فيه بعد قيامه مقام التصريح. وأجابوا عن استدلالهم بآية البقرة في خطبة المعتدة بأن الله تعالى بين فيها شبه خصوصية. حيث قال تعالى: ((علم الله أنكم ستذكرونهن)) أي فجعل لكم مندوحة - رفعاً للحرج -. واعلم أن القاذف قد يكون ذكراً والمقذوف انثى، وقد يكون أنثى والمقذوف ذكراً، وقد يكون ذكراً والمقذوف ذكراً، وقد يكون أنثى والمقذوف أنثى، فالقسمة رباعية. وقد نص في الآية على قذف الذكور للإناث، وبقية الصور المسكوت عنها داخلة في حكم المنصوص، بالالحاق بنفي الفارق، ولا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف في وجه الاستدلال. فالجمهور يرون أن ذلك من باب الإلحاق بنفي الفارق، قالوا: وذلك يدل أن نظير الحق حق يلحق به، ونظير الباطل باطل يلحق به. وذهب ابن حزم إلى أن المحصنات هنا نعت لمحذوف بتقديره يظهر شمول الآية للصور كلها بدون قياس، والتقدير: والذين يرمون الفروج المحصنات، وهذا تكلف منه بناءً على أصله في نفى القياس. ويرد عليه بأن الله تعالى وصف المحصنات في آية أخرى بما يبين أن المراد بها النساء كما في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)). [الآية: 23 من هذه السورة]. وبعضهم يقول: إن المنعوت المحذوف تقديره: الأنفس. والإحصان يطلق ويراد به العفة، ويراد به الحرية، ويطلق ويراد به التزويج. فمن إطلاقه على العفة قوله تعالى في هذه الآية: ((والذين يرمون المحصنات)). ويرى بعضهم أن لفظ المحصنات هنا شامل للعفيفات والحرائر، فيحد من قذف حرة عفيفة ولا يحد من قذفه أمة مملوكة عفيفة. وقد ثبت في الصحيح ما يفهم منه عدم إقامة الحد على الحر إذا قذف مملوكاً، فإن فيه: (أقيم عليه الحد يوم القيامة). [الحديث في صحيح البخاري (8/34) وفي صحيح مسلم (3/1382) ولفظ مسلم أقرب إلى ما كتبته عن فضيلة المفسر ففيه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (من قذف مملوكه بالزنى يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال) ولفظ البخاري: (من قذف مملوكه هو برئ مما قال جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال)]. ومن إطلاق الإحصان مراداً به العفة قوله تعالى: ((مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)) وقوله: ((مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَات)). [النساء:24-25]. وذهب بعضهم إلى أن الحر يجلد إذا قذف العبد أخذاً بالعموم. [قلت: قد يكون عدم إقامة الحد على الحر القاذف للعبيد خاصاً بالسيد يقذف مملوكه؛ لأن لفظ الحديث ورد فيه بخلاف غيره]. ومن إطلاق الإحصان مراداً به العفة ني كلام العرب قول الشاعر:

فلو رمى زانية محدودة لا يحد، ولكن يؤدبه السلطان. ومن إطلاق الإحصان على التزويج قوله تعالى: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيما * وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)). [النساء:24،25]. قوله تعالى: ((ثم لم ياتوا بأربعة شهداء)) عطف على قوله: ((يرمون)). وفي الآية دليل على أن الزنى لا يثبت إلا بأربعة عدول، وقد نص على ذلك أيضاً في سورة النساء. [الآية:15]. فلو شهد أقل من أربعة بالزنى لم يثبت الزنى ويحد الشهود حد القذف، وأكثر العلماء على أن ستر على مرتكب المعصية أولى من محاولة رؤيته لأداء الشهادة عليه، إلا إذا كان العاصي مصراً على معصيته وصارت المعصية ديدنه لا يرتدع عنها، فحينئذ لا يسن الستر في حقه. ولابد في الشهادة على الزنى من التصريح به، وأنهم رأوا الفرج في الفرج. وأكثرهم يقولون: إذا حصلت الشهادة بذلك كفت، وذهب الإمام مالك إلى أنه لا بد من شهادة الشهود الأربعة على الولجة الواحدة، فلو شهد كل واحد مهم منفرداً أو في مواضع متعددة، أو أحد العصر والآخر المغرب... فلا يحصل المقصود من الشهادة. والسبب عنده أن الحدود لا يتساهل فيها. وذكر ابن كثير في سورة الأنبياء قصة قديمة تشهد لما ذهب إليه مالك وقعت لداود وسليمان عليهما السلام،. خلاصة القصة أن أربعة راودوا امرأة جميلة على نفسها فرفضت فاتفقوا أن يتهموها على أنها تربط كلباً وتمكنه من نفسها فذهبوا إلى داود وشهدوا بذلك عنده، فرجمها داود، فلما علم سليمان، أحضر خمسة من الصبيان الذين كان يلعب معهم، وسمى أحدهم باسم المرأة وسمى الأربعة بأسماء الشهود فشهدوا أنها مكنت الكلب من نفسها، ففرقهم وسأل كل واحد منفرداً عن لون الكلب فاختلفوا فيه، فقال: ارموهم فإنهم قتلوها ظلماً، فعلم داود بذلك فطلب الشهود واستجوب كل واحد على انفراد عن لون الكلب فاختلفوا فأمر بهم فقتلوا جميعاً، والقصة في تفسير ابن كثير كما قال الشيخ (187/3) وهي في كتاب معارج الصعود إلى تفسير سورة هود ص: 300)]. وكذلك قصة علي في عهد عمر رضي الله عنهما، ومفادها التفريق بين الغرماء الذين أنكروا حق المدعي عليهم، فقد استطاع بفراسته أن يحملهم على الاعتراف بالحق، بعد أن أنكروا مجتمعين عند عمر. [ذكر القصة ابن القيم رحمه الله في كتابه: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 49 وما بعدها، ولكنه ذكر أن القاضي في المسألة هو شريح. راجع أيضاً معارج الصعود إلى تفسير سورة هود ص:300،301]. ولا بد من تزكية الشهود، فإن لم تحصل التزكية فقال بعض العلماء: لا حد على القاذف لأنه قد أتى بأربعة شهود. ووجوب تزكية الأربعة يدل على أن التواتر لا يحصل بخبرهم لأن التواتر لا تشترط فيه التزكية ولا العدالة. وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن القاذف الذي لم يأت بأربعة شهود تثبت عليه ثلاثة أحكام: الحكم الأول: الجلد ثمانين. الحكم الثاني: عدم قبول شهادته. الحكم الثالث: الحكم بفسقه. وصيغة الأمر في قوله تعالى: ((فاجلدوا)) للوجوب، والخطاب لأولي الأمر ومن قام مقامهم. و((ثمانين)) مما ناب عن المفعول المطلق.. و((جلدة)) تمييز العدد والضرب يكون وسطاً، ليس شديداً يبرح ولا خفيفاً يخل بالحد المطلوب كما ينبغي. والفسق يطلق على الخروج عن الطاعة، سواء كان خروجاً إلى الكفر، أو إلى ما دونه من المعاصي: كبيرة أو صغيرة. ومن إطلاقه على معصية الكفر قوله تعالى: ((وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا)). [السجدة:20]. ومن إطلاقه على ما دون الكفر قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)). [الحجرات:6]. وقوله تعالى: ((إلا الذين تابوا)) هذا الاستثناء على أصول الأئمة الثلاثة – غير الإمام أبو حنيفة - يرجع إلى جميع ما سبقه من جمل متعاطفة، أو مفردات، إلا ما دل الدليل على إخراجه، فيعود هنا إلى عدم قبول الشهادة، وإلى الفسق، فتقبل شهادة القاذف التائب، ويرتفع عنه الفسق الناتج عن القذف، ولا يرجع إلى الجلد بالإجماع، فالإجماع هو الذي أخرج هذا الحكم عن دخوله في الاستثناء. وخالف في ذلك أبو حنيفة، فأوجب رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط، وعلى هذا فلا تقبل شهادة القاذف بعد التوبة ولو صار أعدل الناس. وقد أجمع العلماء - بما فيهم أبو حنيفة - أن الاستثناء في آية الفرقان يعود إلى جميع ما سبقه، وليس إلى آخر مذكور فقط وآية الفرقان هي قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاما * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيما)). [الفرقان:67،68،69]. فالاستثناء راجع إلى دعاء غير الله، وقتل النفس، والزنى بلا خلاف ولكن هذا لا يرد على أبي حنيفة لأن الاستثناء عنده يرجع إلى اسم الإشارة في قوله تعالى: ((ومن يفعل ذلك)) واسم الإشارة دال على الجميع. وقد اختاره صاحب المراقي. [أي مراقي السعود في أصول الفقه، هو الشيخ عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي. مقدمة شرح مراقي السعود المطبوع سنة 1359هـ ـ 1978م]. وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثنا فكلا يقفو والبيت في فصل: المخصص المتصل]. وقد استدل داود الظاهري بقاعدة الجمهور هذه، فجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين - سواء كان بالشراء أو بالسبي- واستدل بقوله تعالى: ((وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ)) وقوله بعد ذلك: ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)). [النساء:23،24]. ويصعب على الجمهور التخلص من استدلاله بذلك. أما أبو حنيفة فلا يرد عليه ذلك، لأنه يقول: الاستثناء راجع إلى قوله تعالى: ((والمحصنات من النساء)) فقط، وليس راجعاً إلى ما قبله. والذي يظهر باستقراء القرآن أن الحق خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة، وخلاف ما ذهب إليه الجمهور أيضاً. والحق ما حررته طائفة قليلة من متأخري الأصوليين، وهو أن يتوقف في الاستثناء ويكون من قبيل المجمل حتى يدل دليل على المراد منه. فتارة لا يرجع إلى الأول، كما في الجلد هنا، وكذا في قوله تعالى: ((وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا)) [النساء:92]. فإن الاستثناء لا يرجع إلى تحرير الرقبة وإنما يرجع إلى الدية. وتارة لا يرجع إلى الأخير، وقد مثل له بعض العلماء بقوله تعالى: ((وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً)). [النساء:83]. قالوا: فلا يمكن أن يرجع الاستثناء إلى الأخير، لأنه لا يستغني أحد عن فضل الله ورحمته، فلولا فضل الله ورحمته لم ينج أحد عن اتباع الشيطان، لا قليل ولا كثير، بل لاتبعوه كلهم. [وأحال فضيلة شيخنا المفسر رحمه الله إلى أنه قد بين هذا المعنى في كتابه: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، في سورة النساء، وقد لخصت من الكتاب المذكور آنذاك، وهو مطبوع في كتاب مستقل الجمل الآتية:"واختلف العلماء في مرجع هذا الاستثناء: فقيل راجع لقوله: ((أذاعوا به)). وقيل: لقوله: ((لعلمه الذين يستنبطونه منهم)) وإذا لم يرجع للجملة التي تليها، فلا يكون نصاً في رجوعه لغيرها. وقال بعضهم: إن قليلاً قد يستعمل ويراد به معنى العدم، كما في قول الشاعر:

وبعض العلماء يقول: إن الاستثناء راجع للجملة الأخيرة، والمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم لاتبعتم الشيطان في ملة آبائكم من الكفر وعبادة الأوثان، إلا قليلاً كمن كان على ملة إبراهيم كورقة بن نوفل. اهـ (من ص:68،69)]. والأولى أن يستدل بآية في سورة النساء لا يعود فيها الاستثناء إلى الجملة الأخيرة بدون نزاع، ولم ينتبه لها الاصوليون، وهي قوله تعالى: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ..)). [النساء:89،90]. فإن الاستثناء لا يمكن أن يرجع إلى الجملة الأخيرة؛ لأنه لا يجوز أن يتخذ ولي أو نصير ممن يصل إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق، وهم كفار. فالاستثناء راجع إلى الأخذ والقتل فقط كما هو ظاهر. وخلاصة القول: أن في الاستثناء بعد الجمل أو المفردات المتعاطفة ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يرجع إلى جميع الجمل إلا ما دل الدليل على إخراجه كالإجماع على إخراج الجلد – هنا - وهذا مذهب جماهير العلماء. القول الثاني: أنه يرجع إلى الأخير فقط، وهو مذهب أبي حنيفة. القول الثالث: أنه من قبيل المجمل، يجب التوقف فيه إلا بدليل يبين مرجع الاستثناء، واستقراء القرآن يدل على هذا؛ لأنه قد لا يعود إلى الأخير، وقد لا يعود إلى الأول، وقد يعود إليهما معاً بالقرائن، وهذا مذهب بعض المتأخرين، كالغزالي من الشافعية، وابن الحاجب من المالكية، والآمدي من الحنابلة، وهو الحق إن شاء الله.



السابق

الفهرس

التالي


Error In Connect