﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي

مقدمة
[أغلب هذه ال مأخوذ من معارج الصعود إلى تفسير سورة هود؛ لأن الهدف من ال في الكتابين واحد، وتعليقي يوضع بين معقوفي، هكذا: [ ]. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واًشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:102]. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) [النساء:1]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) [الأحزاب:70 -71]. أما بعد.... فإن خير الكلام كلام رب العالمين، وخير الهدي هدي رسوله الأمين، وكل كلام خالف كلام الله فهو الباطل، وكل هدي خالف هدي محمد صلى الله عليه وسلم فهو الضلال المبين. لذلك كانت السعادة كل السعادة في سلوك صراط الله المستقيم الذي لا سبيل إليه إلا بالعلم النافع والعمل الصالح اللذين تضمنهما هذا القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، تحدى الله به الخلق كلهم إنسهم وجنهم أن يأتوا بآية مثله فعجزوا.. أخبر عن الغيب في الماضي والمستقبل فكانت أخباره كلها صدقاً، وشرع للخلق أحكاماً تضبط حياتهم وسلوكهم فكانت كلها خيراً وعدلاً.. ولفت أنظار الخلق إلى عجائب الكون وأسراره في كل عصر وجيل فأدهشت عقولهم وأودعت في قلوب المنصفين الإيمان الحق بالبرهان والدليل.. لذلك قال تعالى لأعداء الملة القائمة على الحجج والبراهين: ((وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)). [البقرة:23]. وقال تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)). [هود:13]. وقال تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُون * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)). [الطور:33-34]. وقال تعالى: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)). [الإسراء:88]. وأكد سبحانه وتعالى أن هذا القرآن يرشد إلى السبيل التي هي أقوم وأصوب السبل، وبها يتميز الناس في الدنيا والآخرة.. فمن سلكها كان من ذوي الأعمال الصالحة مستحقاً للبشرى بثواب الله الجزيل في دار كرامته ومن صد عنها وحاد كان من المجرمين الذين نزل القرآن لينذرهم عذاب الله الأليم.. قال تعالى: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)). [الإسراء:9-10]. وقد أشار شيخنا المفسر رحمه الله تعالى إلى أن هذه الآية الكريمة - آية الإسراء - قد شملت كل ما في كتب الله من الهدي إلى خيري الدنيا، والآخرة.. فقال رحمه الله: "وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدي إلى خير الطرق وأعدلها واًصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدي إلى خيري الدنيا الآخرة...".. [أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن (3/409-457)]. وذكر أمثلة لذلك للتنبيه بها على غيرها ولبيان ضعف عقول من كابر في الإيمان بها أو طعن فيها.. ومما لاشك فيه أن السبيل الموصل إلى العلم بهدي القرآن العظيم للتي هي أقوم هم علماء الأمة الإسلامية الذين مكنهم الله والمثابرة على قراءته بتدبر وتعقل، لفهم مراد الله منه والعمل به والدعوة إليه وتفسير معانيه وبيان أحكامه والغوص في بحار علومه.. قال تعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً)). [النساء:82-83]. وقال تعالى: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر)). [القمر: 15، 17، 22، 32، 40]. وعلماء الهدى هم الذين غرست في قلوبهم خشية الله لجمعهم بين العلم بأسرار شريعته وتدبر أسرار عجائب خلقه في هذا الكون العظيم، والعمل بما علموا من وحي الله من كتاب وسنة. قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور * إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُور * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)). [فاطر:27-30]. لذلك كان العلماء هم ورثة الأنبياء، وكانت الخسارة الفادحة بموت أحدهم أعظم بأضعاف مضاعفة من موت أحد الصالحين من غيرهم؛ لأن العلم يقبض بموتهم.. كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)". [البخاري (1/33،34)]. والناظر في التاريخ الإسلامي يجد السبق لعلماء القرون المفضلة: الأسبق فالأسبق، إذا ما قاس فضلهم بفضل نتائج علمهم وثماره التي تصلح أحوال المجتمعات في دينها ودنياها بتحقيق مصالحها ودرء مفاسدها.. وتجعل المجتمع الإسلامي قائماً بوظيفته التي كلفه الله إياها من هداية الناس بنور الإيمان ورفع كلمة الحق وإرساء أسس العدل، وقيادة البشرية إلى شاطيء الأمان وبر السلام.. إن النظر في ذلك بهذا المقياس يجد هرماً له قمة عالية يقف عليها الخلفاء الراشدون ومن التف حولهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ويجد في وسطه أمثال أئمة الحديث والفقه والتفسير، كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، والإمام أبى حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل، وابن جرير الطبري ونحوهم من أئمة الإسلام الأوائل. وهكذا حتى يصل الناظر إلى سفح ذلك الهرم فيجد في العصور المتأخرة كثرة من المنتسبين إلى العلم، ولكن كثيراً منهم لا يرتقون إلى تلك القمم السامقة الرتب العالية. غير أنه يرى عدداً من الرايات المرفوعة مشيرة إلى أعلام علم وهدى، منح الله بهم الأمة الإسلامية يذكرون بمن سبقهم من أئمة الإسلام من أمثال ابن تيمية وابن القيم وابن كثير والعز بن عبد السلام وغيرهم.. كما يجد في هذا العصر قلة ممن جمع الله في صدورهم من الهدي النافع زبدة علوم الأوائل وخلاصتها من أمثال شيخنا العلامة الكبير المفسر الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي.. آية عصره في حفظ كتاب الله والتبحر في علومه والاطلاع الواسع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإحاطة بدقائق الفقه وأصوله، وسعة الاطلاع باللغة العربية وكل ما يتصل بها، ومعرفة أنساب العرب والقبائل وكثير من أعلام الإسلام من الصحابة وغيرهم.. ويمتاز شيخنا المفسر، رحمه الله باستخدامه كل علوم العربية وغيرها من العلوم الإسلامية في تفسير كتاب الله ومحاكمة الآراء والمعاني التي تقال في الكلمة أو الآية إلى ما غلب في القرآن نفسه.. ثم تفسيره بالسنة، ثم بما ورد عن السلف، مع التعمق في فهم ذلك بالأساليب العربية.. ولقد أسعدني الله سبحانه وتعالى بتلقي العلم على يديه - وهو من نوادر المشايخ الذين أعتز بهم - خلال أربع سنوات دراسية في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية من سنة 1382هـ إلى 1385هـ في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ألقى علينا محاضرات في الأجزاء المقررة في السنوات الأربع في التفسير.. فقد أخذنا في السنة الأولى ما يقارب نصف سورة البقرة وفي السنة الثانية سورة المائدة وجزءً من سورة الأنعام وفي السنة الثالثة سورة هود، وسورة يوسف وسورة الرعد – بتوسع في الأولى، وسرعة في الأخيرتين -.. وفي السنة الرابعة سورة النور وتفسيره لها شبيه بتفسير سورة هود في التوسع وكتبت تفسيرها كما كتبت تفسير سورة هود، وقد فقدت مني هذه 15 عاماً وكان طبع كتاب معارج الصعود سبباً في عثوري عليه، فلله الحمد والمنة، وعفا الله عمن تسبب في فقده تلك المدة الطويلة.. [أخذ الكتاب المخطوط أحد الأصدقاء ـ وكان في السنة الرابعة من الكلية ـ بعد تخرجي بثمان سنوات تقريباً، ولم يرده إليَّ في حينه]. كما ألقى علينا محاضرات في أصول الفقه فيما عدا السنة الثالثة فقد حرمنا من محاضراته بسبب تأثره ببعض الأوجاع.. وإذا كنت قد سعدت بتلقي العلم على يديه خلال أربع سنوات فإني قد ندمت ندماً شديداً على ما فاتني تسجيله من علمه الذي كان مثل الدر والجواهر النفيسة التي تلقى في رمال فلاة واسعة فتضيع فيها.. فلم أكتب عنه في السنة الأولى ولا الثانية إلا تعليقات خفيفة على هوامش الكتاب الذي كان بأيدينا في التفسير، وهو فتح القدير للشوكاني. وقد دفعني ذلك الندم إلى العزم على كتابة محاضراته في التفسير في السنتين الباقيتين: الثالثة والرابعة. ولم نكن في ذلك الوقت نفكر في إحضار مسجل للصوت لأسباب: منها كبر حجم المسجلات، حيث يستصعب حملها مع حمل الكتب، ومنها أنها تحتاج إلى أشرطة كثيرة قد يصعب على الطالب شراؤها لقلة النفقة. لذلك أعددت لمحاضرات الشيخ كراسات كافية من أول السنة، وكنت أحمل قلمين مليئين كل يوم بالحبر احتياطاً إذا فرغ أحدهما أو تعثر أخذت الآخر. وقد كان فضيلة شيخنا المفسر رحمه الله يكره أن يرى طالباً يكتب في وقت إلقائه المحاضرة ويغضب غضباً شديداً.. وكان ذلك من الأسباب التي ثبطتني عن الكتابة في السنتين السابقتين.. وكنت أضع الكراسة على فخذي وأسارقه النظر وأكتب كل لفظة يقولها بسرعة هائلة، حتى إن بعض سطور الكراسة التي أكتب فيها مباشرة لا تتسع إلا لكلمتين أو ثلاث من شدة السرعة. والذي سوَّغ لي الكتابة مع كراهة الشيخ لها أمور: الأمر الأول: الحرص على هذا العلم الغزير الذي يذهب فور سماعه إلا ما شاء الله، والكتابة قيد العلم، كما أن الحبال قيد الصيد. الأمر الثاني: أنه يختبرنا في آخر السنة وأسئلته تشتمل على فقرات مما ألقاه، ومن الصعب أن يجيب الطالب عليها إجابة سليمة إذا لم يكن ملماً بالمعاني التي ألقاها. الأمر الثالث: علمي بأن سبب كراهة الشيخ للكتابة خشيته من أن يشغل الطالب نفسه عن الاستفادة من محاضراته، ولو علم أن في الكتابة فائدة محققة لما كره ذلك. الأمر الرابع: أنني لم أكن أفكر وقت الكتابة عن الشيخ في أن يكون ما أكتبه يمكن أ ن يعد على هيئة كتاب، وقد يسر الله لي كتابة تفسير سورة هود بأكملها ما عدا محاضرتين فاتني حضورهما نبهت عليهما في مكانهما. وسيأتي ذكر تاريخ كل محاضرة في مكانها المناسب. وهذا التفسير يعتبر نموذجاً لتفسير فضيلة الشيخ فقد كان لتفسيره ثلاث حالات: الحالة الأولى: الإسهاب والتوسع، وهذا يحصل في المسجد النبوي في شهر رمضان من كل عام، حيث كان يجلس من بعد صلاة العصر ويجتمع حوله الناس على اختلاف طبقاتهم فيفسر القرآن الكريم إلى آذان المغرب.. وقد كانت بعض الكلمات تأخذ منه محاضرة كاملة، بل محاضرتين، وكان كل الناس يستفيدون منه كل واحد بقدر علمه وثقافته، ويستفيد عامة الناس بما يذكره من آداب متعلقة بالآيات.. وله أشرطة تمثل ذلك في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.. [في سورة متفرقة غير كاملة، لم يصل فيها إلى سورة هود]. وقد تبين لي مما أفرغه بعض طلبة العلم من أشرطة تفسير الشيخ في المسجد النبوي، الذي سماه العذب المنير، أن الشيخ قد فسر القرآن الكريم في هذا المسجد كاملا، قبل انتقاله إلى الريض، ويبدو أنه لا يوجد له أثر، أما تفسيره الأخير في العذب المنير ففيه قليل من سورة القرة، وفيه غالب سور الأنعام والأعراف، والأنفال والتوبة ويقع في خمسة مجلدات، وقد قرأته في شهر واحد تقريبا، واستفدت منه فائدة عظيمة، فقد ذكرنيبتلك الجلسة التي يجلسه الشيخ أمامنا، وهو يتفاعل مع كتاب الله، ويتحفنا في تفسيره بغالب العلوم، من اللغة والفقه وأصول الفقه والتفسير الموضوعي، والتفسير بالأثر، والبسط في الموعات المهمة، مع ذكر آراء العلماء واستدلالاتهم، والترجيح بينها ترجيحا مبنيا على استنباط العالم المفسر الفقيه المنصف العادل، ولعل الله يقيض من يكثر البحث عن بقية أشرطته ويفرغها، لتتم بذلك فائدة الراغبين من طلبة العلم في الاستزادة منه. الحالة الثانية: التوسط وعدم الإطالة أو الاقتضاب الشديد، ويمثل هذه الحالة تفسير سورة هود، وتفسير سورة النور هذا. الحالة الثالثة: الاقتضاب الشديد، وهو المرور السريع على بعض المفردات في الآية والإشارة السريعة إلى بعض معانيها، وكان يلجأ إلى هذه الحالة في آخر السنة الدراسية عندما يرى أنه لا يمكن إكمال المنهج المقرر بأسلوب الحالة الثانية. وهاتان الحالتان كان يقتضيها المنهج الدراسي.. ولقد أقنعت نفسي بكتابة هذا التفسير وإخراجه في كتاب، وإذا كان فيه شيء من الخطأ أو النقص فهو بطبيعة الحال منسوب إلى الكاتب وليس إلى المفسر. وقد يتساءل القاريء ما الدليل أن هذا التفسير لفضيلة الشيخ المفسر؟ وللإجابة على ذلك أذكر الأمور الآتية: الأمر الأول: أن الأصل هو إحسان المسلم الظن بأخيه المسلم لأن الأصل فيه الأمانة والصدق، وكاتب هذا التفسير هو أحد هؤلاء المسلمين، وقد أخبرت القاريء بأنني كتبت هذا التفسير عن فضيلة الشيخ، فلا يجوز الشك في هذا الخبر إلا بقرينة، وقد كانت كراسة هذه السورة [سورة النور] لدى أحد زملائي في نفس الكلية استعاره مني لينقله، وسبق أنني فقدت هذه الكراسة مدة15 سنة، ثم وجدتها لدى هذا الزميل. الأمر الثاني: أن كل من قرأ على فضيلة الشيخ أو سمع محاضراته في المسجد النبوي الشريف أو في قاعات الدرس في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية من زملائي في الدراسة أو غيرهم ممن هم قبلنا أو بعدنا، إذا اطلع على هذا التفسير سوف لا يخالجه شك في أنه لفضيلة الشيخ. الأمر الثالث: أن زملائي من جميع أنحاء المعمورة، ومنهم المجدون في طلب العلم كانوا يعلمون أنني كتبت محاضرات الشيخ، وكانوا يتعجبون من قدرتي على متابعة ذلك كتابة.. وكان منهم من يستعير مني كراستي لينقل منها ما يفيده في الامتحان، ولا زال أكثرهم أحياء وسيطلعون على ذلك إن شاء الله. عملي في هذا التفسير: أما ما قمت به في هذا التفسير فينقسم إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: كتابة محاضرة الشيخ في وقتها، وكانت هذه المرحلة شاقة، لثلاث أسباب: السبب الأول: سرعة إلقاء الشيخ الذي كان يتدفق كالسيل المنحدر من رأس جبل. السبب الثاني: كثرة النصوص التي كان يوردها من القرآن والشواهد العربية، وبعض الأحاديث النبوية.. وكنت إذا لم أدرك كل النص آخذ محل الشاهد منه ثم أحاول إتمامه فيما بعد. السبب الثالث: إلزام نفسي بكتابة كل كلمة يقولها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. السبب الرابع: كوني أكتب خفية من الشيخ ومحاولتي التوفيق بين الكتابة، وإظهار نفسي أمامه إذا التفت إلي أنني أصغي و منتبه له. وكان السطر أحيانا يمتليء بكلمات قليلة جداً بسبب السرعة وبعض الكلمات قد يصعب أن أقرأها بسهولة، فأضطر للتأمل فيها حتى أتذكرها أو أسأل عنها في محاضرة أخرى.. وكنا نهاب أن نسأله لعلمنا بأنه لا يرغب سماع الأسئلة التافهة ونخشى أن تكون أسئلتنا من هذا النوع.. إضافة إلى أن السؤال في الدرس اللاحق عما مضى في الدرس السابق قد يجعله يفسر ذلك بعدم انتباه السائل. المرحلة الثانية: هي أنني كنت عندما أعود إلى المنزل من قاعة الدرس أباشر بدء تبييض محاضرة ذلك اليوم فأستغرق في ذلك أكثر من ضعف وقت المحاضرة، لأنني أكتب بتأن وأحاول حل ما أشكل وكتابة بعض النصوص التي لم أدرك كتابتها مع فضيلة الشيخ. أما المرحلة الثالثة: فهي هذه الأخيرة وهي تتضمن الأمور الآتية: الأمر الأول: تقسيم آيات السورة إلى مجموعات، وكل مجموعة تكون ذات موضوع عام في نظري تندرج تحته جزئيات صغيرة عنونت لها في مكانها. وهذه المجموعات هي: أولاً: الهدف العام من السورة وقد تضمنته الآية الأولى. ثانياً: الزنى وأحكامه من الآية الثانية إلى الآية الثالثة. ثالثاً: القذف بالزنى وأحكامه واللعان وأحكامه من الآية الرابعة إلى الآية العاشرة. رابعاً: قصة الإفك وما ترتب عليها: من الآية الحادية عشرة إلى الآية السادسة والعشرين. وتشتمل على ما يتأتي: (1) وجوب حسن الظن بالمسلم والدفع عن عرضه ما لم يثبت عليه الاتهام بدليل شرعي. (2) العفو عن ذوي العثرات وعدم قطع الإحسان إليهم. (3) عظم ذنب من رمى بريئاً من المؤمنين. خامساً: آداب اجتماعية: من الآية السابعة والعشرين إلى الآية الرابعة والثلاثين. وتشتمل على ما يأتي: (ا) استئذان المؤمنين في دخول بيوت غيرهم. (2) الحجاب من غير المحارم وغض البصر. (3) إنكاح الأيامى، والعبيد، والإماء. (4) استعفاف من عجز عن النكاح حتى ييسره الله له. (5) إعانة العبيد على التحرر من الرق إذا علم فيهم خير. (6) تحريم إكراه السيد إماءَه على الزنى. سادساً: ((الله نور السماوات والأرض)) والمستضيئون بنور الله والمحرومون منه، من الآية الخامسة والثلاثين إلى الآية السابعة والخمسين. وتشتمل على الموضوعات الآتية: (ا) وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته على أساس تنزيهه عن مشابهة الخلوقين. (2) مثل من استضاء بنور الله. (3) المواضع التي يستمد فيها من نور الله. (4) صفة أعمال الكفار التي يقصدون بها التقرب إلى الله. (5) الكون يدل على عظمة الخالق. (6) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. (7) وعد صادق مقيد بشروطه. سابعاً: استئذان الأقارب في دخول بعضهم على بعض، وبخاصة العبيد والصبيان وحكم حجاب القواعد من النساء: من الآية الثامنة والخمسين إلى الآية الحادية والستين. وتضمنت ما يأتي: ا- استئذان العبيد والخدم والصبيان في أوقات معينة. 2- حكم حجاب القواعد من النساء. 3- أكلى الأقارب والمسافرين من طعامهم المحتلط مجتمعين أو فرادى. ثامناً: التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم أمر الله على هوى النفس: من الآية الثانية والستين إلى الآية الرابعة والستين. وتضمنت ما يأتي: 1- وجوب استئذان الرسول على من أراد الذهاب لقضاء بعض شأنه إذا كان معه على أمر جامع. 2- وجوب احترام الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره والتأدب معه. ويتبع كل مجموعة تفسيرها، حيث توضع الآية أو الكلمة من القرآن بين قوسين، ويتلوها تفسيرها. الأمر الثاني: ترقيم الآيات التي استدل بها الشيخ أثناء تفسيره وهي كثيرة وإكمال الآية أو الآيات حسب ما يقتضيه الاستشهاد، وذكر السورة التي فيها الآية أو الآيات. الأمر الثالث: تخريج الأحاديث التي ذكرها الشيخ نصاً أو بالمعنى بذكر المصدر، والدرجة إن لم يكن في الصحيحين. وقد كنت عزمت على عزو الأقوال التي يذكرها الشيخ في تفسير الآية إلى أهلها وذكر مصادرها من كتب التفسير.. ولكني رأيت أن ذلك يحتاج إلى وقت طويل وتتبع لكتب التفسير التي قلما تقرأ كتاباً منها إلا وجدت الشيخ قد رجع إليه وأخذ منه مؤيداً أو ناقداً. فلاشك أنه رجع إلى جميع أمهات كتب التفسير المتداولة، مثل جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، وهو قوى الصلة به ويتبعه في ترجيح كثير من الأقوال، والبحر المحيط لأبي حيان، والتفسير الكبير للفخر الرازى، والكشاف للزمخشري، وفتح القدير للشوكاني.. ولم يقتصر على كتب التفسير، بل يرجع إلى كتب الحديث كالأمهات وكتب التاريخ، وكتب الأدب، وكتب اللغة ولاسيما النحو.. كما سنرى كثيراً من أبيات ألفية ابن مالك، مفرقة في مواضع عدة للاستشهاد بها على القواعد التي يتعرض لها. وقد لا أجد فيما بين يدي من الكتب تكملة لبعض الشواهد العربية التي لم أتمكن من كتابتها في حينه فأدعه كما هو... بعض ما ارتسم في ذهني من خواطر عن الشيخ: لقد كان رحمه الله حريصاً كل الحرص على حضوره قاعة الدرس في أول الوقت والغالب أنه لا يتقدم، أما التأخر عن الوقت ولو قليلاً فلا أذكر أنه حصل. وكانت تتردد على لسانه عبارة يخاطبنا بها في أول جلوسه على الكرسي، وبعد انتهائه من تفسير كلمة أو آية، وهي: (اقروا يا إخوان ضيعتُ الوقت ..).. [مراده: ضيعتم]. وكنا نتعجب من ذلك، لأن الطلبة لا يمزحون معه ولا يمزح بعضهم مع بعض، وأسئلتهم له قليلة جداً، ويحترمونه ويهابون أن يخرجوا عن الدرس إلى أي موضوع آخر. وحاولنا تحليل تكرار الشيخ لتلك العبارة بدون سبب واضح لنا، فبدا لبعضنا أنه ربما كان في أيام طلبه العلم أو تدريسه لزملائه أو تلامذته كان يرى من بعض الحاضرين خروجاً عن الدرس أو تباطؤاً في القراءة فكان يقول لهم تلك العبارة، ثم ألفها فأصبحت تتردد على لسانه. وكان فضيلة الشيخ قوي العاطفة يتفاعل مع تفسيره للآيات ويظهر لمن يراه أو يسمعه أنه يفسر ويتفكر ويتعجب ويخاف ويحزن ويسر بحسب ما في الآيات من المعاني. كان يحرك ويتحرك هو على مقعده بدون شعور من شدة تفاعله مع معاني الآيات، فكان مقعده يزحف حتى يكاد يصل إلى المقعد الذي يقابله من مقاعد الطلاب. وكان يسره جداً أن يسمع سؤالاً من أحد الطلاب فيه إشكال يحتاج إلى حل، كما كان يأسف أن يسمع سؤالاً تافهاً يدل على قلة العلم أو الذكاء عند الطالب.. وكان يقول لصاحب السؤال التافه: يا أخانا من جاء بك إلى هنا! إشارة منه إلى أنه كان ينبغي أن يكون في مستوى أقل من هذا المستوى. وكان تارة يقول بعد أن يشرح: والله ما أنا داري يا خوان (يعني أ فهموا أم لا). وكان يحب أن يسمع قراءة الطالب الذي يجيد القراءة باللغة العربية الفصحى ولا يلحن، سواء في قراءة القرآن أو قراءة مذكراته في أصول الفقه.. ويكره كراهة شديدة أن يقرأ من يلحن في قراءته حتى كان الطلاب في الغالب لا يحرص إلا القليل النادر منهم على القراءة أمام الشيخ. وكان يدخل قاعة الدرس وهو لا يكاد يستطع الكلام من وجع حلقه، ولكنه بعد قليل من بدء المحاضرة ينطلق صوته وينسى أنه مريض، لشدة تفاعله مع المعاني التي يلقيها. وعندما اشتدت آلامه وضعف صوته كثيراً استعمل مكبر الصوت، و لم ندرك ذلك ونحن معه إلا في أيامنا الأخيرة في الكلية، واستمر كذلك في السنوات الأخرى بعد أن تخرجنا. وكان شديد النفور من الفتوى سواء في الفصل الدراسي - أي قاعة الدرس - أو في المسجد أو غيره.. ويقول للسائل: اسأل غيري يا أخانا، وإذا أحرج أجاب جواباً مختصراً بما رجحه بعض أهل العلم ويقول وأنا أقول الله تعالى أعلم. هذا وهو من هو، فكيف بصغار طلة العلم الذين قد يعجز عن فهم كثير من مسائل الطهارة، ثم يقتحم صعاب المسائل، ويفتي فيها، بدون بحث ولا وجل من الله؟! وكان يكره كراهة شديدة من لا يحترم أئمة الفقه ويرد أقوالهم وهو غير أهل لأن يقف هذا الموقف، وله كلام في هذا المعنى ستجده عند قوله تعالى في آخر سورة هود: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ..)). [الآيتان: 118 ، 119]. وكان يثني على ذوي العلم لعلمهم ويكره منهم تشددهم ضد العلماء الكبار، كما هو الحال مع ابن حزم الظاهري. أما أدعياء الاجتهاد الذين يجهلون قواعد العلوم الأساسية، فكانت كراهته لهم أشد لفرط جهلهم أو غلوهم في وضع أنفسهم في غير موضعها. أسأل الله أن ينفعني وكل قارىء له به وأن يثيب صاحبه الثواب الجزيل وأن يأجرني على ما بذلت من جهد في إخراجه ويغفر لي ما قد يكون حصل من خطأ في كتابتي عن شيخنا المفسر رحمه الله.. وما وجده القارىء من صواب فهو لصاحبه وما وجد من خطأ فمن زلة قلم كاتبه.



السابق

الفهرس

التالي


Error In Connect