(06)سافر معي في المشارق والمغارب
في مسجد سوندا غلابة:
في الساعة السابعة والنصف مساء ذهبنا إلى مسجد
(سوندا غلابة) لصلاة العشاء والتراويح، وعندما اقتربنا من المسجد رأينا الشوارع المؤدية إليه غاصة بالمشاة إليه قد وقفوا السير لكثرتهم، وأغلبهم من الشباب طلبة الجامعات والمدارس من سن العشرين فأقل إلى سن السابعة، بل وأقل أيضاً وبأيديهم السجادات، وهم من الجنسين الذكور والإناث.
وعندما دخلنا إلى الساحة المحيطة بالمسجد، وهي واسعة مزروعة بالعشب وعلى يسار المسجد ساحة واسعة مخصوصة بالنساء ويحيط بها حاجز من القماش، والمسجد يتكون من طابقين، وقد امتلأ المسجد بطابقيه وازدحمت الساحة، وأخذنا نبحث عن مكان في الساحة الخارجية، فلما رآنا بعض الشباب بلباسنا العربي، تعاونوا فيما بينهم وتفسحوا حتى أفرغوا لنا مكاناً يتسع لنا الأربعة، وأعطونا سجاداتهم بإلحاح شديد منهم على قبولنا لها.
وبعد أن صلينا ركعتين أقيمت الصلاة، وصلى الإمام صلاة تميل إلى التخفيف المجزي، وقراءته جيدة. وبعد صلاة الفريضة ألقى موعظة بلغته استغرقت نصف ساعة تقريباً، ثم صلى التراويح والوتر بثلاث تسليمات: أربع ركعات وسلم، ثم أربعا وسلم، وكان يقرأ في كل ركعة مع فاتحة الكتاب بآيتين من سورة يوسف، ثم الوتر ثلاثاً بتسليمة واحدة، ثم أخذ يدعو والناس يؤمنون تأميناً ترتج معه الحارة التي بها المسجد.
نفع التحريك فأين التفقيه؟
كنا قد سمعنا قبل زيارة هذا المسجد أن هناك عناية خاصة بالشباب، وأن جمعية قد أنشئت لربط النشء بالمسجد، وعندما حضرنا هذا المسجد رأينا أثر ذلك التحريك واضحاً فقد تحرك الشباب واستجاب لنداء الله وغصت به المساجد، ولكن تلك العواطف الجياشة والفطرة المستجيبة ينقصها التفقيه في دين الله (ومن يرد الله به خير يفقهه في الدين).
والذي دلنا على نقص الفقه في الدين.. أن الفتاة تأتي إلى المسجد وهي لابسة اللباس غير الإسلامي لا فرق بين لباسها ولباس الفتاة غير المسلمة، ولكن هذه الفتاة التي تأتي لأداء الصلاة تكون حاملة كيساً فيه فوطة (إزار) وخمار، وسجادة، فإذا دخلت المسجد وأخذت مكانها للصلاة لبست الفوطة على أسفل جسمها، وألقت خمارها على رأسها، وبسطت سجادتها وصلت، فإذا انتهت من الصلاة خلعت الفوطة والخمار وطوتها مع السجادة ووضعتهما في الكيس، وخرجت في الشارع بلباسها غير الإسلامي وهكذا تكون في المنزل والمدرسة.
وهكذا تجد بعض الفتيان لابساً سراويل قصيرة وفوطته بيده، فإذا أراد الصلاة لبس الفوطة وإذا فرغ منها خلعها ومشى مكشوف الفخذين، لقد عرفت الفتاة - وعرف الفتى كذلك - أن ستر العورة في الصلاة واجب فعلاً، هذا الواجب عرفاه وجهلا - في أغلب الظن - وجوب ستر العورة، أو جهلا العورة، خارج الصلاة فلم يسترها.
وهكذا تجد كثيراً من المسلمين عندهم عواطف إسلامية طيبة، ولكنهم يجهلون كثيراً من أمور دينهم فيرتكبون المحرمات ويتركون الواجبات، ولو فقهوا دينهم لكان لهم شأن غير هذا.
الجيش الشعبي أو النفير العام:
عندما خرجنا من المسجد رأينا السيارات في الشوارع واقفة، والخارجون من الصلاة قد ملئوا الشوارع كلها، فلم يقدر أهل السارات على تحريكها من أماكنها، وابتعدنا مسافة عن المسجد فاستأجرنا سيارة وحاول قائدها السير فلم يقدر، لأن الناس انتشروا في الشوارع كلها، فوقفنا مدة ننظر إلى هذه الأعداد الهائلة.
والظاهر أن مسجداً آخر في حارة أخرى خرج المصلون منه، فالتقت الجموع وزاد الزحام، والهدوء يخيم على الإندونيسيين، والسير بنظام، ولو كانت هذه الجموع من بعض الشعوب الأخرى لكان الصخب والضجيج والتدافع مسيطرة على الشوارع.
عندئذٍ قلت للأخ عبد الله باهرمز: هكذا مساجد إندونيسيا كلها، قال: نعم، وهذا المسجد من المساجد المتوسطة وليس من الكبيرة، قلت: لو رُبِّيَ هذا الشباب تربية إسلامية سليمة كما أراد الله في منهجه: الكتاب والسنة، لكانت هذه الأعداد كلها نفيراً عاماً أو جيشاً شعبياً يرهب أعداء الله، وأعداء الله يَرْهبون هذا المظهر على الرغم من ضعف التربية.
وهنا تذكرت المسجد النبوي الذي كان المصلون فيه في عهد الرسول صَلى الله عليه وسلم، وأصحابه كلهم جنود دعوة وجهاد.
اجمع بينهما على سنة الله ورسوله!
عندما رجعنا إلى الفندق كنت مشغولاً بالكتابة فنبهني الشيخ عبد القوي إلى التلفزيون، فالتفت فإذا تلك الفتاة الإندونيسية ترتل كتاب الله بصوتها، وهي ساترة ما عدا وجهها وكفيها، وتقرأ في المصحف لم ترفع عينها عنه.
قلت لعبد الله باهرمز: هذه قارئة وهذا قارئ، فاجمع بينهما على سنة الله ورسوله ليتعاونا معاً على حفظ كتاب الله وتلاوته وتعليمه، فهش الشيخ وبش، ولكنه أحجم خوفاً من جو الزوجتين وقد رآه من بعد فأخافه.
الاثنين: 2/9/1400ه ـ 14/7/ 1980م
مع الشيخ رشيدي:
اتصل الدكتور رشيدي هاتفياً يطلب مقابلتنا في منزله، لمناقشة منهاج زيارتنا لمدينة جاكرتا فزرناه في الساعة الحادية عشرة صباحاً. وبعد أن فرغنا من مناقشة ما دعينا من أجله زرنا السفارة السعودية حيث التقينا القائم بالأعمال الأستاذ أمين مدني الذي قابلنا ببشاشة، وعرض علينا استعداده لتسهيل أي أمر نحتاج إليه مما يقدر عليه، وكان السفير غير موجود آنئذٍ في جاكرتا.
الاجتماع بشباب يميلون إلى جماعة التكفير:
وفي الساعة الثانية بعد الظهر طلب مني بعض الطلبة زيارتهم لمذاكرة بعض شؤون الدعوة وأخذ التوجيهات في ذلك، وبقي الشيخ عبد القوي في الفندق يراجع القرآن الكريم فذهبت إليهم، واجتمعت بهم.
وهؤلاء الإخوة يميلون في أفكارهم إلى جماعة التكفير في مصر، لأن زعيمهم "الشيخ بَكِير بن سعيد عبده" درس هناك فترة ورجع متأثراً بهم، إضافة إلى ما كان يراه في بلاده من اضطهاد للمسلمين ومضايقة للدعاة، وإبعاد لمبادئ الدين الإسلامي وشريعته عن حياة المسلمين، وتمكين للنصارى والوثنيين والباطنيين وغيرهم.
ولكن تكفير المجتمعات المسلمة ذو خطر عظيم لا يجوز الإقدام عليه، ولهذا طلب مني بعض الطلاب المتخرجين من الجامعة الإسلامية، ومنهم الأخ حلمي أمين الدين، وهو من الدعاة النشطين [سيأتي أنه سجن وعذب بعد أن غادرت إندونيسيا]. ومنهم من كان لا يزال طالباً في الجامعة، طلبوا مني أن أجتمع بهذه الجماعة ورئيسها، لأقنعهم بالرجوع عن تكفير المجتمعات المسلمة.
الآن استماع وبعده حوار:
بدأنا الاجتماع معهم بعد صلاة العصر، تم في بدايته التعارف بيننا، ثم قلت لزعيمهم: الوقت ضيق لا يتسع لحوار طويل، وأرى أن أستمع الآن لأفكاركم وأدلتكم، وإذا كان عندكم فرصة لتمديد وقت الاجتماع للحوار في ذلك فلا مانع عندي. فقال لي: لا باس.
أدلة التكفير:
وبدأ يسرد لي أدلة الوعيد والنصوص التي يطلق فيها الكفر على بعض المعاصي، من القرآن والسنة، وجزم بان كل كبيرة تعتبر كفراً مخرجاً لصاحبها من الإسلام،كما أخذ في سرد جرائم الحكام ومحاربتهم للإسلام والمسلمين، وإقرار المجتمع لأعمالهم، وأن من يقر الكفر كافر.
وبعد أن أتم ما عنده فيما يزيد عن ساعة، قلت له: بعد صلاة المغرب أرجو أن تستمعوا لما أقول لكم كما استمعت لما قلتم، بدون مقاطعة، ويمكنكم أن تسجلوا ملحوظاتكم في أوراق، فإذا فرغت نبدأ الحوار، قالوا: لك ذلك.
توطئة وتطمين:
استأنفنا الاجتماع بعد أن صلينا المغرب، وقلت لهم: لا شك إن شاء الله في أن كلاً منا يريد أن يرضي ربه بما يعتقد ويعلم ويعمل، والواجب علينا جميعاً أن نتذكر أن فوق كل ذي علم عليم، وأن الواجب على طلبة العلم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلى الله عليه وسلم، وأن يجمعوا بين النصوص الواردة في الباب الواحد ولا يضربوا بعضها ببعض، وأن يعودوا إلى أقوال علماء المسلمين الذين فقههم الله في الدين فخدموه بذلك الفقه، وأن يكون الهدف من الجدال والحوار هو الوصول إلى الحق، وإن خالف رأيهم، وأعدكم أنني - بمشيئة الله تعالى - سألتزم برأيكم إذا بدا لي أنه الحق، وأتنازل عن رأيي.
وقلت لهم: إن مسألة التكفير مسألة شائكة وخطيرة، وليس عندي هنا مراجع أرجع إليها في هذا الباب، ولكني سأذكر لكم ما يوفقني الله لاستحضاره من الأدلة وأقوال العلماء.
فتح أبواب النار وتَذَكُّر نصوص الوعيد مزلة:
وقلت لهم ينبغي أن نتذكر - هنا - قواعد مهمة يوقع نسيانها في الزلل:
القاعدة الأولى: أن فتح أبواب النار وحدها وقفل أبواب الجنة، ظلم للنصوص الواردة في البابين.
القاعدة الثانية: أن الأصل في العقيدة الإسلامية أن رحمة الله سبقت غضبه، وقلب هذه القاعدة غير لائق بطالب العلم.
القاعدة الثالثة: أن الأصل في أهل القبلة ألاّ يكفروا بذنب غير الشرك بالله، ما لم يستحلوا ما حرم الله أو يحرموا ما أحل الله بدون تأويل سائغ.
القاعدة الرابعة: أن كلاً من الكفر والظلم والفسق، قد يطلق على ما هو كفر وظلم وفسق أكبر، يخرج صاحبه من ملة الإسلام، وقد يطلق على ما هو كفر وظلم وفسق أصغر، لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام.
القاعدة الخامسة: أن النفاق قسمان: قسم اعتقادي يخرج صاحبه من الإسلام، وقسم عملي لا يخرج صاحبه من الإسلام. والذي يخرج عن هذه القواعد معرض للشطط والإفراط أو التفريط.
ثم ذكرت لهم بعض النصوص في هذا الباب من القرآن والسنة، مثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }. [النساء: 48].
ومثل ذكرت لهم معنى حديث أبي ذَرٍّ رضِي الله عنه: قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: (ما مِنْ عَبْدٍ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ثُمَّ ماتَ عَلَى ذَلِكَ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ) قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ) [البخاري رقم: 5379 , ومسلم رقم: 137.:].
وأحلتهم على بعض الكتب التي يمكنهم الاستفادة منها في هذا الباب، كتفسير ابن جرير وتفسير ابن كثير وغيرهما، في تفسير الآيات المتعلقة بهذا الموضوع، وكذا كتب الحديث وشروحها -كصحيح البخاري وفتح الباري لابن حجر، وصحيح مسلم وشرحه للنووي-وبخاصة كتب الإيمان والتوحيد… ومنها كتب العقيدة، كشرح العقيدة الطحاوية وغيرها.
هل لدى أحد منكم استفسار أو حوار؟
وقد استغرق الحديث أكثر من ساعة، بعد ذلك قال رئيس القوم - موجها سؤاله إلى جماعته -ـ : هل لدى أحد منكم استفسار أو حوار؟ فكان جوابهم جميعا: ليس عندنا شيء.
فقال لي: يا شيخ إننا جميعا نشكرك، وأود أن أطمئنك أن كل ما ذكرته من القواعد والنصوص قد اطلعنا عليها، ولكن عرضك لها في هذه الجلسة جعلها تبدو عندي كأنها جديدة، فجزاك الله خيراً، وقد سجلت خلاصة كلامك في هذه الورقة، وسأعود إلى المراجع والكتب التي ذكرتها لنقرأها أنا وإخواني، وسأبين لكل من اتصل بي وفهم مني غير ما ذكرته الآن بطلان ذلك، أسأل الله أن يغفر لنا ما سبق. هذا وقد اجتمعت ببعض طلابه بعد ذلك مراراً في جاكرتا، فوجدتهم متمسكين بمذهب أهل السنة في هذا الباب، والحمد لله رب العالمين.
|
|