﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(09)وقاية المجتمع من تعاطي المسكرات والمخدرات

(09)وقاية المجتمع من تعاطي المسكرات والمخدرات



المبحث الرابع: حفظ العقل.



العقل من أكبر نعم الله على الإنسان، جعله الله فرقاً بينه وبين الحيوان، بما أودع فيه من طاقة للحكم على الأمور واستخلاص النتائج من مقدماتها، والغوص إلى معرفة الحقائق الكونية، والاستدلال بها على عظمة الخالق … والواجب أن يشكر الإنسان ربه على هذه النعمة التي لولاها لما كان هناك فرق بينه وبين الحيوان.



لذلك يذكر الله آياته الكونية وما فيها من نعم الله على الإنسان، ويعقب على ذلك التذكير بأن في ذلك آيات لذوي العقول، كقوله تعالى: (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11) وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (12) وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون) (13) [النحل: 10-13]. والتفكر والتذكر لا يوجدان إلا عند العقلاء.



وكذلك جعل الله تعالى آياته الشرعية، حياة لذوي العقول التي توصلهم عقولهم إلى تقوى الله، كما قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) [البقرة: 179].



ومما يدل على ضرورة حفظ العقل أنه تعالى جعله مناط التكليف، لأن العاقل هو الذي يكون قادراً على فهم خطاب الله، بخلاف المجنون، أو ناقص التصور بسبب نقص إدراكه لضعف عقله، كالصبي فإن الله لا يكلفهم في تلك الحال، فقد صح عن رسول الله صَلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق) [صحيح البخاري (8/21) وأبو داود (4/558) والتمهيد لابن عبد البر (1/109) وفتح الباري (9/393) والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/138-139)].



وسائل حفظ العقل:



ويمكن تلخيص وسائل حفظ العقل في ثلاثة أمور عامة:



الأمر الأول: توجيه صاحبه إلى المجالات النافعة – أي تفكيره في المصالح التي تعود عليه وعلى مجتمعه بالخير في الدنيا والآخرة، وتغذيته بالمعاني السليمة الصافية، سواء ما يتعلق منها بالغيبات أو المحسوسات: في أمور الدنيا والآخرة.



وقد وردت نصوص كثيرة لتوجيه العقل إلى هذا الأمر، وحث العقل على التفكير في المحسوسات، الهدف منه الوصول على ما يترتب عليها من الانقياد لصانع تلك المحسوسات، ولهذا يعبر عنها بالآيات، أي العلامات التي تدل العاقل على أن الانقياد لصانعها هو الشيء الطبيعي.



من ذلك قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [البقرة: 164].



ففي هذا دعوة إلى استعمال العقل في هذا المجال، وهو الاستدلال ببديع صنع الله على وجوب الانقياد له، وذلك أصل مصالح الدنيا والآخرة.



ومن ذلك دعوة العقل إلى التفكر في كتاب الله الذي أنزله على رسوله صَلى الله عليه وسلم، الذي اشتمل على كل ما فيه مصلحة للناس، فإن ما فيه من الهداية إلى الخير والتحذير من الشر، لا يتردد العقل السليم في الإقرار به، كما قال تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) [يوسف: 2].



فإذا لم يهتد الإنسان بعقله إلى ما فيه مصلحته مما جاءه من عند الله، فقد أضاع عقله ولم يستفد منه، فأصبح بمنزلة من لا عقل له، لذلك ينفي القرآن الكريم عن مثل هذا الصنف من الناس العقل، أو ينكر عليه عدم العقل للأمور النافعة أو الضارة، كالمشركين الذين يرفضون اتباع ما أنزل الله ويقلد الأبناءُ منهم الآباءَ، كما قال تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) [البقرة: 170-171].



ومن الآيات التي تعرضت لهذا المعنى، وهو حفظ العقل على التفكر فيما ينفع فيتعاطاه، وما يضر فيجتنبه، هذه الآية الكريمة المتعلقة بحفظ العقل نفسه مما يفسده (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) [البقرة: 219].



كانت هذه الآية قبل أن ينزل تحريم الخمر الباتُّ في سورة المائدة، وهي تلفت عقول شاربي الخمر إلى أن النفع الذي قد يحصل منها بيعاً وشراءً وشرباً، في جانب مضارها العظيمة، التي تقتضي أن ترجح عقولُهم السليمة البعدَ عنها بدلاً من تعاطيها.



فإذا وُجِّهت عقولُ الشباب إلى المقارنة والموازنة بين المصالح والمفاسد، وما ينبغي فعله وما ينبغي تركه، فإن ذلك من أهم وسائل حفظ عقولهم من الضياع.



الأمر الثاني: صيانة العقل من المفسدات المعنوية، وذلك يشمل العقائد والأفكار والمعارف كلها، سواء كانت دينية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو عسكرية، أو اقتصادية، فإن العقل إذا غذي بعقائد وأفكار ومعلومات فاسدة يسوء تصوره ويفسد ويضل، ويصبح أخطر من العقل الخالي من المعلومات، لأن هذا الأخير يمكن أن يهيأ له من يغذيه بالعقيدة السليمة والفكر الصحيح والمعلومات الصادقة، فيكون قبوله لها سهلاً، بخلاف العقل الذي يغذى بالمعاني الفاسدة ويؤكد له صدقها، فإن انتزاع تلك المعاني الفاسدة منه وإحلال معاني صحيحة محلها، ليس سهلاً بل قد يكون في غاية الصعوبة، وهذا واضح في أهل الملل المختلفة والأفكار المتشعبة في كل العالم.



والعقل الذي يصان من المفسدات المعنوية، يسهل أن يصان من المفسدات الحسية، بخلاف العقل الذي تفسده المعاني الفاسدة، فإنه من السهل أن يستجيب لما يفسده حسياً، بالخمر والمخدرات -مثلا-.



ويمكن أن أضرب لذلك مثالاً يمس ما نحن بصدده في هذا المؤتمر، وهو أن نجد شخصين، أحدهما يقول: إن الدين غل في عنق الإنسان يمنعه من تناول ما يريد مما تشتهيه نفسه بكامل حريته، مادام متعلقاً بشخصه، وآخر يقول: إن الحرية الحقة هي حرية الإنسان الذي لا يعبد إلا الله، أما الذي لا يعبد الله وحده، فليس بِحرٍّ، بل هو عبد لكل شيء مما تشتهيه نفسه، لأنه لا يقدر على مقاومة هذه الشهوات التي قد تهلكه في النهاية.



فالأول يرى أن له الحق أن يتناول المسكرات والمخدرات، لأنه حر في نفسه وليس لأحد عليه سلطان، والآخر يرى أنه ليس له حق تناول ذلك، لما فيه من مخالفة أمر الله الذي يعلم ما يصلح الإنسان وما يضره، الأول غذي عقله بمعنى فاسد، والثاني صين عقله من ذلك المعنى فكان سليماً.



تنبيه مهم:



هذا التنبيه يحتاج إلى بحث خاص به، ولكن ينبغي أن يشار إليه -هنا- بإيجاز، لأنا نعيش في ظرف طغى فيه تأثير شديد على عقول شباب هذه الأمة، وهو يتكون من مصدرين أساسيين:



المصدر الأول: أساسه أهل الكفر بجميع فئاتهم، وكثير من أبناء المسلمين الذين أفسد أهل الكفر عقولهم، وهم الذين يسمون بــ"اللبراليين" أو العلمانيين، وهم تلاميذ لأهل الكفر، هؤلاء بقسميهم فسدت عقولهم فسادا معنويا خطيرا جدا: الأولون فسادهم أصيل، لأنه كفر بالله وكتبه ورسله وملائكته، واليوم الآخر، وهم أعداء لله ولرسوله وللمؤمنين، يحاربون الله ورسوله والمؤمنين، حربا سافرة لا هوادة فيها، ويعتبرون تطبيق شرع الله تعالى الذي أنزله في كتابه، أو صحت به سنة رسوله، تشددا وتطرفا وإرهابا يجب أن يتعاونوا هم وتلاميذهم المتبعين لهم على حرب من يطبقه أو يدعو إلى تطبيقه، والإسلام عندهم إسلامان: إسلام مرحب به، وهو الدين الذي يكون صلة بين الإنسان وربه، يتعبده بلسانه وقلبه وجسمه في بيته أو مسجده، ولا يتدخل في شئون المجتمع وحياته السياسية والاقتصادية والمالية والأخلاقية والتشريعية والعسكرية، كما هو شأن أهل الكنائس من النصارى...



وإسلام سياسي يطبق كل ما جاء في كتاب الله الذي أنزله على نبيه محمد صَلى الله عليه وسلم، وما صح من السنة عن رسوله صلى الله عليه وسلّم، وهذا هو الإسلام المتشدد المتطرف الإرهابي الذي يجب أن يتعاون على حربه أساتذة الكفر وطلابهم التابعون لهم من أبناء المسلمين، ويطلقون عليه الإسلام السياسي الذي لا يجوز أن يكون له وجود في الأرض!



المصدر الثاني: بعض شباب المسلمين الذين أزعجهم المصدر الأول الذي يحارب دينهم وقرآنهم ورسولهم، وشريعتهم، ورأوا كثيرا من حكامهم يخضعو لهم فيبعدون شرع الله تعالى عن تطبيقه ف حياة الأمة، ويطبقون -بدلا عنها- قوانين بشرية، يتصرفون في حياة شعوبهم بتطبيقها، ويغيرون تلك القوانين البشرية بحسب أهوائهم ورغباتهم، ولا يساوون بين الناس حتى على ضوء تلك القوانين، ووجدوا كثيرا من علماء المسلمين، إما ساكتين خوفا من سطوة الحكام، وإما مؤيدين طمعا في قربهم منهم.





فأساء هؤلاء الشباب الظن بجميع العلماء، فابتعدوا عنهم ولم يطلبوا العلم على أيديهم، بحجة أنهم علماء سلطة يسيرون في ركابها، وأخذوا يقرؤون القرآن الكريم والحديث الشريف ويفهمون من ظواهر نصوصهما في كل موضوع على حدة مفهومات، غير سليمة لارتباط النصوص بعضها ببعض، وقد قَعَّد علماء المسلمين لها قواعد في مؤلفات، تبين ذلك الارتباط، مثل أصول الفقه وأصول التفسير وعلوم الحديث وغيرها، ومن تلك القواعد الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وتعارض المصالح والمفاسد، وكيف يتعامل معها الفقيه أو العالم.. وهذه كلها أو غالبهالا يدري عنها كثير من الشباب، ولذلك يقدمون على تدبيرات ظانين أنه قد فقهوها، وهم عن فقهها بعيدون.



ولهذا قاموا بأفعال في بلدان المسلمين، أو بلدان الكفار، جلبت على الأمة الإسلامية أسوأ المحن والابتلاءات، وأعطوا لمن يحاربون الإسلام حجة على أن تطبيق شرع الله في الأرض يجلب للناس كوارث ومصائب، فاجتمع على حرب الإسلام قسما المصدر الأول، أهل الكفر وتلاميذهم من أبناء المسلمين.



كما أن هؤلاء الشباب -بسبب جهلهم وسوء فهمهم- يختلفون فيما بينهم ويكفر بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، لأن كل فئة منهم تدعي أن الحق قد حصر في فهمها، ولذلك نرى انشقاقات فيما بينهم، وتعود مفاسد أعمالهم وأضرارها إلى الشعوب الإسلامية، كما نشاهد ذلك في وقتنا الحاضر.



ولقد كان للجن صولات وجولات في إفساد العقول قبل الإسلام، بسبب ما كانوا يحصلون عليه من استراق السمع من السماء، وكانوا يضيفون إلى الكلمة الصادقة الواحدة تسعاً وتسعين كلمة كاذبة، فيصدقهم الناس، فلما جاء الإسلام حرس السماء بالشهب التي كانوا يُرمَون بها، لتُحفَظ العقول من فسادهم، إضافة إلى تغذية العقول بالوحي المنزل من السماء، الذي أصبحت عقول كثير من الجن أنفسهم، محفوظة به من الفساد والإفساد، كما قال تعالى: (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9) وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا (10) وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا (11) وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا (12) وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا) (13) [الجن].



وقد وردت أحاديث صحيحة تبين ذلك.



وإذا كان الله تعالى قد تولى حفظ الناس من خرافات الجن وكذبهم، فمنعهم من استراق السمع، وجعل بعضهم يؤمنون بالله ويتوب من إفساد العقول، فإن الأرض مليئة بالخرافات التي يتولى نشرها بعض الإنس، وكذلك الأفكار الفاسدة التي يطلق عليها الآن الغزو الفكري، وقد حمّل الله تعالى المسؤولية علماء الإسلام وحكام الشعوب الإسلامية – الناجين من ذلك الغزو – فإنهم يجب عليهم أن يَرمُوا من خالف الإسلام، بشهب الحجة والحديد، كما رمى الله الجن بشهب السماء. قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله إن الله قوي عزيز) [الحديد: 25].



فإذا تمت صيانة العقل من المفسدات المعنوية، سهل كما سبق صيانته من المفسدات المادية المحسوسة.



ولكن المؤسف أن أكثر ولاة أمور الشباب المسلم، من حكام وعلماء وآباء، لا يهتمون بعقول الشباب وصيانتها مما يفسدها معنوياً، وإن كان كثير منهم يحاولون أن يصونوها من المفسدات المادية، وهم بذلك شبيهون بمن يرمي الشخص الذي لا يجيد السباحة في البحر، ثم يرمي له حبلاً قصيراً لا يصل إليه، من أجل إنقاذه من الغرق.



بل من عجائب المسلمين أن ينعكس الأمر عندهم عما هو عليه عند غيرهم، فيكون أكثر المدمنين في الغرب، من الطبقات الدنيا التي ليس عندها أعمال تملأ فراغهم أو من الذين عندهم قصور عقلي وتخلف ذهني، ويكون أغلب المدمنين في بلدان المسلمين، هم من الذين يتولون أمور الشعوب من الساسة والأغنياء، بخلاف عامة الشعوب الإسلامية فإن الإدمان فيهم أقل من زعمائهم، بسبب بعد الصنف الأول عن دينه أكثر من الصنف الثاني، لأن الصنف الأول قد ملئت عقوله بالمفسدات المعنوية، وهي ثقافة أهل الغرب السامة [راجع كتاب: الخمر بين الطب والفقه للدكتور محمد على البار، الذي نص على أسماء بعض زعماء الشعوب الإسلامية ممن عرف عنهم تعاطي الخمر ص:95-96].



الأمر الثالث: صيانة العقل من المفسدات المادية، وتندرج تلك المفسدات كلها في كلمة واحدة، عني بها القرآن والسنة والفقه الإسلامي، وهي الخمر التي هي أم الخبائث كلها، لأنها تجمع بين التفتير والسكر الذي هو قمة الإضرار بالعقل، فالسكر لا يحصل إلا بعد التخدير والتفتير، وهذا ما أشار إليه علماء اللغة، كما قال الإمام مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري، المشهور بابن الأثير: "وفي حديث عمر أنه رزق الناس الطلاء فشربه رجل من فتخدر" أي ضعف وفتر، كما يصيب الشارب قبل السكر، ومنه خدر الرجل واليد" [النهاية في غريب الحديث (2/12)].



وفي ترتيب اللسان: "وقد خدرت الرجل، تخدر والخدر من الشراب والدواء، فتور يعتري الشارب وضعف … والخدر الكسل والفتور …" [ترتيب اللسان (2/797)]، "وخدر العضو خدراً، من باب تعب: استرخى فلا يطيق الحركة" [المصباح المنير (مادة:خدر) لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي].



والأصل في تحريم الأشياء في الشريعة الإسلامية، كون المحرمات خبائث عند الله الذي يعلم خبثها، سواء ظهر ذلك للناس أو لم يظهر، كما قال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) الآية [الأعراف: 157].



ومن ضمن هذه الخبائث الخمر التي حرمها الله تعالى في كتابه، وحرمها رسوله صَلى الله عليه وسلم في سنته، وأجمعت الأمة على تحريمها، كما قال ابن قدامة رحمه الله: "الخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) إلى قوله {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90].



وأما السنة فقول النبي صَلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) رواه أبو داود، والإمام أحمد [مسلم ولفظه (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) وأبو داود (4/85) والترمذي (4/290) وأحمد (2/16،31،105،134،137)]، وروي عن عبد الله بن عمر أن النبي صَلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه) رواه أبو داود [أبو داود (4/82) وراجع الترمذي (3/580)]، وثبت عن النبي صَلى الله عليه وسلم تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر، وأجمعت الأمة على تجريمها…) [المغني (5/158)].



وقال ابن حزم رحمه الله: (كل شيء أسكر كثيرُه أحدا من الناس، فالنطفة منه فما فوقها، إلى أكثر المقادير، خمر حرام ملكه وبيعه وشربه واستعماله على كل أحد …" [المحلى (7/488)].



فإذا كان الله تعالى إنما حرم على الناس الخبائث، والخمر أم الخبائث كما نص على ذلك السلف، وعلى رأسهم عثمان بن عفان رضِي الله عنه، وقد حرمت بالكتاب والسنة والإجماع، وقد لعن الله كل من شارك في الحصول عليها، فإن الذي يبيح للناس أن يبيعوها ويشتروها ويصدروها ويستوردوها، يكون أولى باللعن من غيره.

بل إن الذي يحل شيئاً مما علم تحريمه من الدين بالضرورة، لا يكون مسلماً بل هو كافر، وهذا الصنف من الناس يكون محارباً لله ولرسوله وللمؤمنين، ومعارضا للحكم بما أنزل الله، فلا يليق به أن يلجأ إلى الإسلام ليستعين به زاعما وقاية شعبه، مما يرى هو فيه مضرة كالمخدرات، لأنه يستعين بشيء – وهو الإسلام - يرى الناس أنه عدو له، فلا يمكن أن يستجيبوا له، ولكن الذي يحرم ما حرم الله، ويحل ما أحل الله، ويحكم بشرع الله، له الحق أن يستعين بأحكام الإسلام على مطاردة المنكرات كلها، والناس يصدقونه عندما يذكر الإسلام ويستدل به [ليس في هذا تثبيط لمن يحاربون الإسلام عن الاستفادة من تطبيق أحكامه، وإنما المراد الحض على التطبيق الكامل لأحكام الإسلام].



طرق صيانة عقول الناس من المسكرات والمخدرات:



وعندئذ تكون صيانة الناس وعقولهم من المسكرات والمخدرات، وكل ما فيه ضرر، كالتدخين تكون بالطرق الآتية:



الطرق الأولى: منع صناعتها في داخل البلاد، منعاً باتاً وإنزال العقوبة المناسبة بكل من تعاطى ذلك.



الطريق الثانية: منع إدخالها إلى البلاد، عن طريق التجارة أو الاقتناء دون تفريق بين الناس، وإنزال العقوبة المناسبة بكل من حملها معه، أو حاول إذخالها بأي وسيلة.



الطريق الثالثة: الحكم على من ضبط متعاطيا لها، بما في شرع الله دون تهاون.

وقبل هذا كله تربية الشعب كله أفرداً وأسرا ومجتمعاً، على أنها من الخبائث التي حرم الله، وأن الله يعاقب من ارتكبها كما مضى في الفصول والمباحث السابقة.

والإسلام وحده هو القادر على صيانة العقل من المفسدات المعنوية والمادية معاً، ولا يستطيع أي دين أو أي قانون أن يصونه كما يصونه الإسلام، وسيأتي ما يؤكد هذا في الفصل السابع إنشاء الله.





السابق

الفهرس

التالي


15327730

عداد الصفحات العام

4024

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م