﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ۝٥١ فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ ۝٥٢ وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝٥٣﴾ [المائدة ٥١-٥٣]
(67) سافر معي في المشارق والمغارب :: 66- سافر معي في المشارق والمغارب :: (34) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (033) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف. :: (067) سافر معي في المشارق والمغارب :: (066) سافر معي في المشارق والمغارب :: (031) دور المسجد في تربية الأحداث ووقايتهم من الانحراف :: (065) سافر معي في المشارق والمغارب :: (030) دور المسجد في التربية وعلاج انحراف الأحداث :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::
   
جملة البحث



السابق

الفهرس

التالي


(027) الإسلام وضرورات الحياة - المبحث الثالث: التزام السعي المشروع في طلب المال وكسبه

(027) الإسلام وضرورات الحياة - المبحث الثالث: التزام السعي المشروع في طلب المال وكسبه



وفي هذا المبحث فرعان:



الفرع الأول: كسب الرجل بعمله المباح:



ما أكثر توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية إلى وسائل تملك المال والإرشاد إليها، وأساسها العمل الذي يقوم به الإنسان فينال مقابله ما يَسَّر الله له من رزقه، وهو يشمل كل نشاط مباح يقوم به.



قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الربَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الربَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرمَ الربَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ ربِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275)}[البقرة].



فالبيع والشراء من أهم مصادر الرِّزق، وفيهما بركة عظيمة كما سيأتي، ويدخل في ذلك كل أنواع التجارات.



كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ولا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ ربَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رجُلَيْنِ فَرجُلٌ وَامْرأَتَانِ مِمَّنْ تَرضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّر إِحْدَاهُمَا الأُخْرى ولا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ولا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى ألا تَرتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارةً حَاضِرةً تُدِيرونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ولا يُضَار كَاتِبٌ ولا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(282)}[البقرة].



وأَمَر الله تعالى المؤمنين الذين تجب عليهم الجمعة بترك البيع والتجارة في وقت أداء العبادة المفروضة عليهم، وذمَّ من يشتغل بهما في ذلك الوقت، وأذن لهم بعد أداء عبادتهم ـ في وقت قصير ـ بالانتشار لطلب الرزق الذي هو من فضل الله سبحانه، فوقت البيع والشراء متسع قبل العبادة وبعدها..



قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْر اللَّهِ وَذَروا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْر لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فَانْتَشِروا فِي الأَرضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُروا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رأَوْا تِجَارةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَركُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارةِ وَاللَّهُ خَيْر الرازِقِينَ(11)}[الجمعة].



قال القرطبي، رحمه الله: "قوله تعالى: ?وَذَروا الْبَيْعَ? منع الله تعالى منه عند صلاة الجمعة، وحرَّمه في وقتها على من كان مخاطباً بفرضها. وخصَّ البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، ومن لا يجب عليه حضور الجمعة فلا ينهى عن البيع والشراء" [الجامع لأحكام القرآن (18/107).].



وقال عند تفسير قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فَانْتَشِروا فِي الأَرضِ}: هذا أمر إباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا(2)} [ المائدة]. يقول: إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتعرف على حوائجكم.{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي من رزقه وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة، انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين" [الجامع لأحكام القرآن (18/108-109).].



وقال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} فيه إباحة الصيد لمن أراده، وهو يشمل كل حيوان مباح. وقال سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْر وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارةِ وَحُرمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَر مَا دُمْتُمْ حُرمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرونَ(96)}[المائدة].



وإذا كان الصيد في الماضي غير مربح كثيراً، فإن وسائل الصيد التي استحدثت في البر والبحر، جعلته اليوم من أهم التجارات العالمية كما هو معروف.



ومن أهم المكاسب الصناعة المباحة بجميع أنواعها.

والصناعة ذات خطر عظيم تتقدم به الأمم التي تهتم بها وتزاولها، وتسيطر بها على سواها من الأمم الخاملة التي يستولي عليها الكسل.



وقد نعى القرطبي رحمه الله على من يدعو إلى الخمول وترك اتخاذ الأسباب، فقال في تفسير قوله تعالى عن داود عليه الصلاة والسلام: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرونَ(80)}[الأنبياء]. "هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء، القائلين بأن ذلك إنما شُرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه، فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة.



وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عيه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضاً يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثاً، ونوح نجاراً، ولقمان خياطاً، وطالوت دباغاً، وقيل سقَّاء.

فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها عن نفسه الضرر والبأس" [الجامع لأحكام القرآن (11/320-321).]. واللبوس آلات الحرب، والمراد به هنا الدروع.



وقال تعالى: {وَمَا أَرسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرونَ وَكَانَ ربُّكَ بَصِيراً(20)}[الفرقان].



قال القرطبي، رحمه الله: "هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك". ثم شنَّ الحملة على بعض مشايخ زمانه، والظاهر أنه يقصد بهم بعض الصوفية المتواكلين الذين يربون الناس على ترك الأسباب زعماً منهم أنهم متوكلون. ونجد غالبهم يتناولون لقمة عيشهم ممن يتصدق عليهم. وساق رحمه الله الأدلة على مباشرة الأنبياء الأسباب والحرف، فراجعه إن شئت[الجامع لأحكام القرآن (13/14-16) وأشار إلى عنوان كتاب له في هذا الباب: "قمع الحرص بالزهد والقناعة، ورد ذل السؤال بالكسب والصناعة".].



حث الرسول عليه الصلاة والسلام على العمل:



ولقد حث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه، وهو حث لأمته كلها على عمل اليد، ووصف طعام هذا العمل خير طعام وأطيبه، كما في حديث المقدام بن معد يكرب، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) [البخاري (3/9).].



وفي حديت عائشة رضي الله تعالى عنهـا: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) [أبو داود (3/800) والنسائي (7/212) والترمذي (3/630-631) وقال: وفي الباب عن جابر وعبد الله بن عمرو. هذا حديث حسن صحيح.].



وحذر عليه الصلاة والسلام من سؤال الناس، وهو حث على العمل، ليستغني العامل عن سؤال الناس، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهـما، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم) [البخاري (2/130) ومسلم (2/720).].



وصرح بذلك في حديث الزبير بن العوام، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) [البخاري (2/129) والنسائي (5/96).].



في هذه الأحاديث الشريفة توجيه إسلامي لكل فرد من أفراد المسلمين، أن يعمل لكسب رزقه بيده، وأن كسب اليد خير ما يكسب، وهو سبيل أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.



وفيها التحذير والتنفير الشديدان من السؤال الذي يورث الذلة في الدنيا والآخرة، ولقد طبق رسول الله ‘ هذه التوجيهات القولية بالتوجيه العملي.



فدرب من جاء يسأله - وهو الكريم الذي كان أجود من الريح المرسلة - على السعي لكسب الرزق بعمله، وأثبت له أن ترك الكسب بالعمل عجز وكسل، وأن البدء بالكسب القليل يبارك الله فيه ويغنى صاحبه عن الناس.



تأمل في هذا المعنى حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، أن رجلاً من الأنصار أتى النبي عليه الصلاة والسلام، يسأله. فقال: (أما في بيتك شيء؟). قال: بلى، حِلْس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقَعْب نشرب فيه الماء. قال: (ائتني بهما). فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله عليه الصلاة والسلام بيده، وقال: (من يشترى هذين؟). قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. فقال عليه الصلاة والسلام: (من يزيد على درهم) مرتين أو ثلاثاً؟



قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياها، فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري. وقال: (اشتر بأحدهما طعاماً، فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فأتني به). فأتاه به، فشد فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام عوداً بيده، ثم قال: (اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً). ففعل وجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً.



فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: (هذا خيرٌ لك من أن تجئ المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع) [أبو داود (2/292-294) وابن ماجة (2/740) والنسائي (7/227) والترمذي (3/513) وقال هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان. والعمل على هذا عند أهل العلم، لم يرو بأساً ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث، وضعَّف الشيخ ناصر الدين الألباني إسناده في إرواء الغليل (5/130) من أجل أبي بكر الحنفي، لجهالته. وقال فيه المنذري في الترغيب والترهيب: "لا ينزل عن درجة الحسن، وقد يكون على شرط الصحيحين أو أحدهما". والحلس كساء غليظ ممتهن يكون على ظهر البعير، والقعب قدح من الخشب.].

وفي هذا التوجيه النبوي دلالات عظيمة، نوجزها في الأمور الآتية:



الأمر الأول: أن النبي عليه الصلاة والسلام، لم ينهر السائل ولم يقل له: إن العمل خير لك من السؤال بمجرد سؤاله، وإنما سأله: (أما يوجد في بيتك شيء؟). وكأنه يقول له: إن على المرء أن يبحث عما عنده في بيته، فإن وجد ما يُمْكنه أن يكتسب به رزقه، فليفعل ذلك قبل أن يتوجه إلى سؤال الناس.



الأمر الثاني: أنه أراد أن يعلمه كيف يعمل فلم يقل له: اذهب وبع الحلس والقعب وارتزق منهما ببيع الحطب ونحوه، وإنما طلب منه أن يأتيه بهما. فلما أتى بهما، أخذهما عليه الصلاة والسلام، بيده وعرضهما للبيع بالمزايدة، وكأنه عليه الصلاة والسلام، يقول له: كان عليك أن تأخذهما وتفعل بهما هكذا، وفي هذا تعليم عملي لمهنة التجارة.



الأمر الثالث: علَّمه أن يبدأ بقضاء حاجته العاجلة ببعض المال الذي حصل عليه، ويتسبب بالباقي.



الأمر الرابع: أنه عليه الصلاة والسلام، وجهه إلى الكسب بالعمل باليد وزوده بآلته.



الأمر الخامس: أنه عليه الصلاة والسلام وجهه إلى أقرب مهنة ممكنة وهو الاحتطاب؛ لأن الحطب في متناول يده بدون ثمن غير جهده.



الأمر السادس: أنه عليه الصلاة والسلام، وجهه إلى الصبر على العمل وعدم العجلة، فقال له: (لا أرينك خمسة عشر يوماً). ليكون أكثر عملاً وأوفر كسباً.



الأمر السابع: عندما جاء وقد قضيت حاجته، فاكتسى وأنفق على أهله أخبره الرسول عليه الصلاة والسلام، أن عمله واكتسابه خيرٌ له من السؤال، وهذا الإخبار يقع موقعه بعد أن عرف السائل مضمونه عملياً وليس نظرياً فقط. فالتوجيه بالعمل أجدى من التوجيه بالقول وحده.



وفي هذا دليل على أنه ينبغي لولاة الأمر أن يعينوا المحتاج بما يجعله يسعى في كسب رزقه بنفسه من مال أو آلة أو غيرهما، ولا يمنعوا المحتاج من السؤال إلا إذا أغنوه عنه.



وهكذا كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، يحترفون ويتجرون وهم فقراء، فيغنيهم الله. وفي قصة عبد الرحمن بن عوف ما يوضح ذلك.



روى أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، قال: قدم عبد الرحمن بن عوف، فآخى النبي عليه الصلاة والسلام بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله.



فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فأتى السوق، فربح شيئاً من أقط، وشيئاً من سمن، فرآه النبي عليه الصلاة والسلام بعد أيام، وعليه وضر من صفرة. فقال: (مهيم يا عبد الرحمن) فقال: تزوجت أنصارية، قال: (فما سقت إليها؟) قال: وزن نواة من ذهب، قال: (أولم ولو بشاة).



قال الحافظ بن حجر رحمه الله: "وقال معمر عن الزهري: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام بشطر ماله، ثم تصدق بعد بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله وخمسمائة راحلة، وكان أكثر ماله من التجارة"، أخرجه ابن المبارك [الإصابة (2/408).].



تم قال ابن حجر رحمه الله: "وذكر البخاري في تاريخه من طريق الزهري، قال: أوصى عبد الرحمن بن عوف لكل من شهد بدراً بأربعمائة دينار، فكانوا مائة رجل" [الإصابة (2/409).].



لقد هاجر عبد الرحمن رضي الله تعالى عنه فقيراً، كغيره من المهاجرين الذين فارقوا البلد والأهل والولد والمال والمنزل، فراراً إلى الله بدينهم.



وقد وصفهم الله تعالى بعد أن ذكر فقرهم بسبب إخراج المشركين لهم من ديارهم وأموالهم، وأنهم خرجوا يطلبون فضل الله ورزقه الذي يغنيهم به من الفقر، وينصرون رسوله عليه الصلاة والسلام، وصفهم تعالى بالصدق، فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ(8)}[الحشر].



فعرض سعد بن الربيع الأنصاري على أخيه عبد الرحمن المهاجري الفقير المال والأهل، فأبي إلا الكسب باليد وهو مما ذكر الله تعالى من ابتغاء المهاجرين فضله، فأصبح من كبار أغنياء الصحابة، رضي الله تعالى عنه، الذين أنفقوا في سبيل الله في حياتهم وبعد مماتهم.





السابق

الفهرس

التالي


15218174

عداد الصفحات العام

2973

عداد الصفحات اليومي

جقوق الطبع محفوظة لموقع الروضة الإسلامي 1444هـ - 2023م